لم يكن يدري لم وكيف رمى به قدره المعتوه إلى هذا الحيز المكاني الذي أعاده القهقرى إلى متاهات ماض مرير،وكان آخر عهده به من عقود تولت على عجل..أخذ مقعده على ركام من جلاميد صخر بلون الرماد تفتت مسامها وتآكلت أطرافها وامتد مشرئبا على سطحها عشب أسود.
هنالك غير بعيد،ثلة من الصيادين يلقون بسنانيرهم وشباكهم..يقارعون الحظ ويشقون بمرارة الترقب..يتلهفون لبحر قد يجود بأقل مما يأخذ،وقد لا يجود أبدا..وهناك في الوسط مدخل البوابة البحرية المنفتحة على مصراعيها..تندفع عبرها جموع المصطافين بعد أن لفظتهم المدن المشحونة بلهيب قيظ خانق..يهرولون على الشط زرافات ووحدانا..بغرّة وسذاجة،يلقون بأجسادهم الطرية في نفق المياه المدنسة بخطايا البراءة المغتالة..
هنا،بمحاذاة البحر،وأمام ناظريه،كان يذرع المكان ملاكا في إيابه وملاكا في ذهابه..ينبسط..يمرح..ينط..يحلق كعصفور طليق..يطفح وجهه بالبشر..صدفات يجمعها من بين ثنايا وحواشي الصخور ويحيلها إلى عقد يطوق جيده الصغير..من ذرات الرمل المبلل،يشيد قصورا لأحلام تتناثر هباء بعد أن يجرفها المد الصارم متطاولا بعتوه الجبار،فما يعود لها من أثر يذكر..قطرات المياه المتناثرة في الفراغ تمتزج برائحة الموت فتصفع وجهه..بلا روية،تنجرف صرخته الأخيرة إلى الأعماق ليتلاشى صداها هناك في مرقده الأبدي.ما كان له أن يدرك بحدسه الطفولي أن للموج العاتي مخالب كاسرة تنهش الأشياء والذوات بضراوة في ومضة بلا اكتراث..تحيل البسمة الوديعة بأرديتها الحالكة إلى عبوس وصمت سرمدي يدمي أفئدة الثكالى..
من مسالك الشط القديم،انمحت آثار قدميه الصغيرتين،وما انمحت رسوم ذكراه من ثنايا جمجمته المحمومة بعد أن جللته سكينة الأبد الكبير...يتناهى إلى يقينه أن البحر وحش كاسر..يكشر عن أنياب الإبادة في غور العتمة مع سبق الإصرار والترصد،ليحوك،في تخف، كمائن لا مرئية تطوي فرائس يغمر كيانها الأمل الباسم بغد أضحى وهما وسرابا..
أدرك،بما لايطاله أدنى ارتياب أن من طبعه العناد..لا يلين ولا يرضخ أمام هذه الكائنات التي تبدوله،بالقياس إلى جلاله،مجهرية مقزمة..وأنى له أن ينزل من عليائه متزحزحا عن صلفه وجبروته وقد اندكت جبال شامخات صريعة في غور أحشائه..!!
قالت فتاة لعائلتها توقفت للتو مشدوهة تراقب اليم على مد البصر: "انظروا..انظروا..يالروعة وجمال هذا البحر !! ."
بزهو،اهتز البحر ابتهاجا..أما هو،فقد بدا له الإطراء غريبا نشازا..انفجر محياه بضحكة صاخبة بلهاء لم يفلح في إبطاء مفعولها..دهش لها من كان على مقربة منه..ردد في أعماق دخيلته:"روعة؟..جمال..؟..يا سبحان الله..!! ".
انكفأ قرص الشمس في أديم السماء متدحرجا في اتجاه الأفق البعيد،انعكس وميضها على الصفحة البلورية للمياه الدافقة،فبدا متلألئا بلون الاصفرار..صياد عجوز يلملم أشياءه..يعد العدة للانصراف..تطلع إليه في فضول وأشار إلى البحر بإيماءة من رأسه :
- يبدو لي سيدي أنك مفتون بهذه اللوحة العجيبة..
- مفتون؟ لوحة؟ كيف؟
- روعة وجمال وسكون هذا البحر ياسيدي!..
ازداد البحر ابتهاجا ورقص طربا..أما هو،فقد ضاقت به السبل وزاده الأمر اختناقا ورد على الرجل متسائلا في دهشة غير معهودة :
- وهل تراه أنت كذلك؟!!
- قد لا يجود علي أحيانا إلا بالنزر القليل من سمكات لا تكفي لسد الرمق..وحتى وإن رجعت لا ألوي على شيء،فإني أقنع بما يغمر به نفسي من متعة..
- هراء..!!..أية متعة تعني يارجل؟
- متعة النظر إليه..
- معذرة سيدي أنا لا أرى شيئا مما تذكر..أنا آسف !!..
أشاح بوجهه عن مخاطبه ثم طأطأ رأسه وسرح بعيدا في شروده..بدا له في نهاية المطاف أن لا محالة أن هذه الكائنات الآدمية مسكونة ذواتها وبؤرة لاشعورها بالأرواح الخفية والأشباح المروعة لبحر لا تهدأ ثائرته..إنها لا ترى وتسمع ما يرى ويسمع..وربما تجهل ما لا يجهل..لقد كان بالقوة وبالفعل،منذ أن وطئت قدماه عين المكان،في هذه الصبيحة،لا يرى شيئا سوى أنه لا يرى إلا سرابا في سراب..
via منتديات مجلة أنهار الأدبية http://ift.tt/1hyHmoD
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق