يوميات نصراوي: وداعا موسكو
نبيل عودة
نبيل عودة
ملاحظة: في نهاية كانون ثاني1970 ، كنت اعالج في احد مستشفيات موسكو بسبب تعرضي للسعات البعوض وهو مستشفى معروف بانه الأرقى في موسكو ويسميه البعض "مستشفى اللجنة المركزية" اذ كان لكبار المسؤولين وضيوفهم من الأحزاب الشيوعية او من الدول الصديقة. وانا كنت ضمن الضيوف (رغم اني تحت صيغة طالب) الذين يدرسون بالمدرسة الشيوعية الدولية ( معهد العلوم الاجتماعية باسمها الرسمي) وكنا نتلقى معاشات كبيرة جدا ، تتجاوز معاش طبيب مختص.
بالطبع كنت اتحدث بشكل لا باس به باللغة الروسية..
وصل للمستشفى عضو وفد مصري رفيع المستوى، كان يعاني من اوجاع قاسية في معدته. طُلب مني ان اساعد في الترجمة أثناء فحصه. فيما بعد جلست معه جلسات طويلة ـ كنت متعطشا لأفهم واقع مصر من مصدر رسمي، تحدث بصراحة وفوجئ بان العرب الفلسطينيين في اسرائيل لديهم القدرة على الصمود.. تصفح مجلة "الجديد" وصحيفة "الاتحاد" بإعجاب كبير واخذ بعض النسخ.
فهمت منه خبرا سريا بان جمال عبد لناصر متواجد الآن في زيارة لموسكو، اذ ذكر بالصدفة انه وصل مع سيادة الرئيس عبد الناصر في زيارة عمل هامة، قلت ان الصحافة الروسية التي اتصفحها يوميا لم تعلن عن زيارة لعبد الناصر الى موسكو..؟ وعبد الناصر بالنسبة للسوفييت ليس مجرد رئيس دولة، بل شريك دولي استراتيجي من الدرجة الأولى ، فكيف لا يرحب به كما في المرات السابقة بشكل حماسي وتغطية اعلامية تشمل كل وسائل الاعلام السوفييتية؟
سألت:هل هي زيارة سرية لترتيبات لها اهمية سياسية وعسكرية بكل ما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط؟
انتبه الى نفسه، وشعرت بانه ارتبك بشدة، حاول تضليلي بانه وصل مع وفد لإعداد زيارة للرئيس ناصر.. لم يقنعني. تبين لي فيما بعد ان عبد الناصر جاء يطلب صواريخ "سام 3" المضادة للطائرات وفرق روسية لتدريب المصريين، كنا في اواخر شهر يناير 1970، وعندما فهم اني تمسكت بالخبر عن وجود عبد الناصر في موسكو رجاني ان احافظ على سرية الخبر.. حتى لا اضر به.
عدت الى بلادي ومدينتي الناصرة في حزيران او تموز 1970. واستلمت قيادة فرع الناصرة للشبيبة الشيوعية.
ليلة 28.9.1970 طرق بابا بيتنا جار لنا أصله من لاجئي مجدل غزة التي هدمت وشرد كل اهلها، وصل الناصرة مع عائلته الكبيرة بعد النكبة اذ كان معتقلا في المعتقلات الاسرائيلية، اسمه صبحي بلال، قرع باب بيتنا بشدة وكان يبكي مثل طفل صغير.. فتحنا له الباب وهو يشهق بالبكاء وبصعوبة قال ان "جمال عبد الناصر مات".
رغم ان ناصر بطش بالشيوعيين .. الا ان الشيوعيون كانوا على قناعة من طهارة عبد الناصر ومصداقيته الكبيرة ، وبعد النكسة بدأ التقارب الكبير بينهم وبينه.
في الصباح الباكر بدأت الاتصالات لترتيب جنازة رمزية للزعيم الراحل في مدينة الناصرة، انتشر شباب منظمة الشبيبة الشيوعية في المدينة يدعون للمشاركة في جنازة عبد الناصر، كانت دعوتنا مجرد تذكير بالوقت لآن الجاهزية كانت كبيرة وموت عبد الناصر ترك صدمة وحزنا كبيرين لا سابق لهما في مجتمعنا. كانت الناصرة تبكي، دموع الرجال تسيل بلا خجل، كنا نعزي بعضنا البعض بمصاب لا نعرف كيف نعبره وحيرتنا من المستقبل بدون عبد الناصر تثقل على قلوبنا.. سالت دموعا كثيرة بشعور اننا نفقد الأمل الكبير والحلم الوطني الذي تعلقنا به.
خطابات عبد الناصر كانت تتحول الى تجمعات كبيرة حول اجهزة الراديو.. كنت فتى ناشئ، ما زلت أذكر كيف كانت تتوقف الأشغال في سوق الناصرة ويتجمع اصحاب المحلات التجارية والحرفيين حيث توجد أجهزة راديو في بعض المحلات، يقفون صامتين للاستماع الى خطاب الرئيس!!
لم يكن عبد الناصر رئيس مصر بل رئيس كل العرب.
في الليلة التي سبقت خروج جنازة عبد الناصر اعتقلت بتهمة الدعوة الى مظاهرة غير مرخصة. اعتقل معي عددا كبيرا من اعضاء التنظيم ومن رفاق الحزب ومن ناس بسطاء بكوا ناصر وقالوا كلمات لم تقع جيدا على اذان المخابرات الاسرائيلية فزجوهم معنا في السجن. احدهم ( يعمل حلاقا ولم يشارك بكل حياته باي نشاط سياسي) اطلق اسم خالد على ابنه البكر، فصار يعرف باسم "ابو خالد"، وقف خطيبا امام مظاهرة عفوية لفتيان صغار داروا في شوارع الناصرة يهتفون "ناصر.. ناصر" خطب بهم بحماسة ودموعه تملأ وجهه :"اذا مات ابو خالد ، فانا ابو خالد حيا ، سيروا وفقكم الله، ابو خالد سيظل خالدا في قلوبنا لا يموت". فاعتقلته الشرطة. التقيت به في سجن الجلمة، أضحكنا بحكايته، ثم اطربنا بأغاني عبد الوهاب.. رغم انه يكسر باللحن.. وكان معنا عضو من الشبيبة الشيوعية يستعد للسفر الى بلغاريا لدراسة الموسيقى، فكان يقاطعه ليصحح له المقام الغنائي، فطلبنا منه ان يصمت ويتركنا نطرب ولتسقط كل المقامات الموسيقية !!
التي سبقتليلة اعتقالي.. التي سبقت يوم جنازة الزعيم العربي جمال عبد الناصر في مدينة الناصرة !!
بعد صياغتها اكتشفت انها قصة فنية كاملة، ادخلتني في حيرة، نشرتها كقصة، لكنها تسجيل دقيق لليلة اعتقالي!!
*******
الاعتقال – قصة: نبيل عودة
الباب يقرع بشدة، افتحوا ابواب الداهرية ليدخل الأباليس آو هي غادة حسناء جاءتني لأتغطى بها بدل اللحاف؟ أين اللحاف؟ عادة سيئة ان أقذف به كل ليلة على الأرض. لا اريد ان اتحرك لأجذبه بالرغم من ان نسمة هواء باردة تجعلني اتكور على نفسي كالقنفد.
من يقرع الباب بإصرار وقح ؟ ما اروع النوم حين تحتويك فكرة بان ما تتغطى به ليس لحافا وانما حسناء. ليقرع الباب وليصحو غيري، انا لن أقوم، قلت لها قبل ان تغادر بي الطائرة موسكو باني اشعر ان قدمي تسوقاني للسجن.
قالت ببراءة ودهشة، وهي تضم ذراعي الى صدرها الدافئ وسط نهديها:
- لكن لماذا... هل انت شرير؟!
النهدان ينقلان لي ، عبر ذراعي.. خفقات قلبها الواجفة المذهولة، لا تفهم ولن تفهم. القرع أصبح في دماغي، رأسها يغطس وسط صدري، اضغط وجهها بيدي واتنشق عبيرها الأخاذ، قلت بتسليم:
- أكيد شرير!
اخذت راسها بين ذراعي، وذاب الفضاء الفاصل بين شفاعنا، مددت ساقي بقوة واردت ان اتغطى جيدا. قرع متواصل شديد. لن أقوم... افتح ؟ الجنة مغلقة!! أحلامي هي الجنة والقرع هو جهنم، فكيف استجيب؟!
- متى ستعود الي؟
- تعالي معي..
- لا اعرف لغتكم.
- انا اعرفها.
تلاقى القطبان فحدثت ارتجاجات صدرية، النعومة تتحدى القرع.لن أقوم.
- ابق معي؟
- يا ليت.
- انت لا تحبني..
- يروق لي ان اراك سعيدة
- لا تهرب من الجواب
- اكون حزينا ان خطف الدهر ابتسامتك
- انت لا تحبني.
- اكون سعيدا بوجودك الدائم معي.
- لماذا لا تقول لي الحقيقة؟
- لأنك تعرفينها!!
غرقت في مد من قبلاتها.. وعندما جاء الجزر... كان القرع يتواصل بشدة.
هل انا نائم؟
نحن غارقان في مقعد مظلل بالأشجار والليل والنسيم، ونهر موسكو يعكس النجوم بوضوح وبجانبي التعاسة المنتظرة. قلت لها:
- اعترفي بحبنا..
- انت تستطع ان تسيطر على قلب المرأة ...
ومدت يدها، انفرجت اصابعها بحركة تشنجية، ثم ضمت قبضتها بقوة وأضافت:
- هكذا..
- لكني لم اخدعك..؟
- من يعلم؟
- انت!
- انا اعطيتك كل شيء.
- هذا يحز في نفسي.
- جميع الرجال من نوع واحد
- لم اكن استطيع ان ارفض.
- انا كنت أستطع
- ولكني استطع ان اسيطر على قلب المرأة هكذا؟
وقلدت حركتها واضفت:
- عندها آخذ ما اريد
- انت وحش شرير.
- لذلك انا ذاهب الى السجن.
رطبت دموعها المالحة شفتي، افتح، قرع شديد ينرفزني.. منذ شهرين لم يذوبنا العناق، لم تذوبنا القبل، لم نغب عن الوعي في انشودة الخلق، منذ شهرين والاف الأميال تفصل بيننا، اعصابي تتوتر من الطرق، لكني جائع للنوم، للدفء والأحلام. لا شيء حولي، لملمت نفسي شاعرا ببعض البرد حتى كادت ساقي تلامسان راسي.القرع شديد، من يقرع؟
ها هي بوجهها المشرق الذي يحمل مسحة حزن. امس بكت عندما خسرت عذريتها، اليوم تعطيها مسحة الحزن التي تظلل جمالها رونقا ذا فاعلية شديدة.
وصلت الي وتأبطت ذراعي. لم تقل أي حرف، سرنا في اتجاه غير معروف، لا اعرف ماذا اقول لها، اشعر بارتباك شديد، ضميري يعذبني، هل أخطأت؟!
طلبت مني الا اهتك عذريتها، لكن اللذة لا تعرف حدودا، استسلمت ، وها هي اليوم حزينة، مستسلمة لعشقها وعاشقها.
وصلنا الى حديقة غوركي، يسميها الروس "حديقة العشاق"، جلسنا. لففت ذراعي حول كتفيها، استسلمت والقت راسها فوق كتفي لحظات وسالت دموعها بغزارة.
ازداد ارتباكي، يجب ان اقول شيئا، قلت:
- اني اتعذب
قالت من خلال دموعها وهي تحيط خصري بذراعيها:
- ليتني لم اتعرف عليك؟
- كفي الدمع.
- لم يتبق لي شيء غيره.
- وانا .. هل تنازلت عني؟!
- ستعود الى وطنك.. وتكون لك واحدة غيري.
القرع شديد، احاول ان استوعب مصدره، فأرى وجهها ، فاهتف:
- أحبك.
بحلقت بي بعيناها الدامعتين بدهشة ويداها تضغطان ذراعي:
- نعم أحبك..
- لا اصدق..
دموعها تثيرني .. وشفتاها؟ لم اكن استطع ان اقاوم:
- أحبك
قلتها بقوة وضممتها الى صدري، اخذت شفتيها بين أسناني، استسلمت لحظة، ثم ابعدتني عنها بقوة:
- سيرانا الناس.
كانت ابتسامة حزينة تعتلي شفتيها.
- حبنا أقوى من الناس
أخذت تجفف دموعها، كنت أشعر بحزن شديد وبذنب لا يغتفر. كثيرا ما حاولت ان تجرني لأقول لها احبك. لم ارد ان اعترف بحبي.. انا لا استطع ان اكون لها، لكن يجب ان تكوني سعيدة يا حسنائي. انتزعت منك الشيء الذي ثمن له، فلأعطيك بدلا منه كلمات، صادقة ام كاذبة؟ ما الفرق؟ الست سعيدة بها؟ أحبك.. أحبك.. أحبك...
اخذت اردد هذه الكلمة .. أخرجتني ابتسامتها التي اشرقت كشمس الفجر من حزني واضطرابي، واصلت الترديد بنشوة، ، رغم الضجة التي لا اعرف كيف تتسرب لنشوتي:
- أحبك .. أحبك .. أحبك ..
وضعت اصابعها فوق شفتي وقال بمرح حزين:
- احد الأمثال الروسية يقول ان الحب هو مجنونان اللذان يصنعان الثالث.
- لكنا لم نصنع الثالث بعد؟
- انا وأنت اثنان..
- والثالث؟
- دعك منه فلن يكون.
- احبك احبك احبك..
- هذه هي حصتي منك.
- لماذا انت حزينة؟
- بل انا سعيدة
- لن اخطئ معك مرة أخرى.
- فات الأوان لم يعد مجال للخطأ
- لا افهم
- هل تحبني؟
- ألم تقتنعي بعد؟
- اذن فانا كلي لك.
- انت رائعة.
- لقد اعطيتك كل شيء..اعصابي .. عقلي .. جسدي..
- هذا هو الحب الحقيقي .. انت اغلى شيء عندي.
لماذا هذه الضجة؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات؟
- ما اعطيتك اياه لا استطع ان استرده، وانت تستطع ان تسترد كل شيء. آنا قدمت اقصى ما تستطع فتاة ان تقدمه وأنت لم تقدم سوى حبك.
- من الممكن ان تصبحي فيلسوفة؟
- الرجل يلقي بجراثيمه في كل مكان والمرأة تتلقى فقط.
- عدم مساواة جدير بالدراسة، لكن بالمقابل قدمت حبي؟
- شكرا سأحتفظ به في احشائي.
- سنصبح ثلاثة؟
- سنبقى اثنين مجنونين.
- ولكن...
- انا اريدك الآن..
- كما اردتك انا امس؟
- بل كما اردتني دائما ومن اول يوم.
- وهل انت لم تريديني مطلقا؟
- الآن زال الحاجز.
- أنا المذنب.
القرع على الباب ينرفزني. يجذني من اجمل ايامي. سراب يشملني.أين انا؟ لما الضجيج؟ حبيبتي تتوهج قربي.. رائعة كما اعهدها، دفنت راسي في صدرها هربا من الضجيج، أحطتها بذراعي، قبلتها في اعلى عنقها، احتمت من شفتي بصدري، رغم الضجيج وصلني صوتها الحزين
- متى ستسافر؟
- بقت سنة وآخذك معي؟
- هنا وطني.
- وهناك انا ؟
- انت لست وطني.
- سأعطيك أكثر...
- كل شيء يفنى
- هذا مشترك لنا
- ما عدا الوطن.
- انت عنيدة.
هزتني قرعة في قمة الشدة، عدت الى نفسي، الآن أميز قرعا حقيقيا على باب البيت، ترى من يقرع البواب في منتصف الليل؟ هل أقوم؟
أمس عندما قمنا بالمظاهرة تنبأت بالاعتقال. طريقة بوليسية كلاسيكية دمقراطية .هل تكون الشرطة؟ لا احد غيرها يستعمل الدمقراطية لإقلاق راحة الناس في الليل. قرع متواصل مرفق بكلمات عصبية، يروق لي ان اتحدى. لن أقوم، حنين جارف لاستعادة الذكريات القرع. قرع وقرع وقرع. النوم يشدني بقوة مغناطيسية تفوق قوة شد القرع. يسرني ان أجرب الاعتقال. لا شك اني متوهم، هل يعقل ان اعتقل على عمل لم أفعله بعد؟ التظاهر حق قانوني ولم تكن من اشكاليات مع الشرطة؟؟
هنا ديمقراطية.. هنا... صوت يصرخ بالعبرية:
- تفتاح مشطراه... _ (اي افتح .. الشرطة)
قرعت اذني تلك الكلمتان العبريتان. يبدو اني غارق في حلم اسرائيلي. هل يجوز ان تصل السخافة الى حد اعتقالي؟ أشعر بحركة خارج غرفتي. جزء من الحلم أم احد افراد عائلتي قد سحبهم الضجيج والقرع من نومه؟ لآنام وازيد مقلقي راحتي نرفزة. فجأة ملأ الضوء غرفتي. والدي يهزني... شيء من التثلج يسري في اطرافي. اريد ان انام، ان استعيد ذكريات الانفتاح العاطفي، ذكريات الدخول للرجولة بمعانيها وأبعادها المختلفة، لا اروع ولا أجمل من ذكريات عهد جديد انفتح في الأفق. وجهها المشرق يلوح لي..
هزة عنيفة جعلتني استعيد الواقع. لن اقوم قبل الهزة العاشرة. التثلج يذوب ويتحول الى تحد. التحدي يطرد النوم. الشرطة تنتظر وانا لن اقوم قبل ان يطول بهم الانتظار، قرعوا طويلا ما شاء لهم القرع، لينتظروا ما شاء لي وما راق لي ان اماطل. أحاول ان اعود لفتاتي، ابحث عنها في وعيي وفي لا وعيي، اناديها بصمت واصرار.. انتظر طيفها.. ابتسامتها. عطرها.. يعتريني القلق الغريب.. هزة جديدة .. هل هي العاشرة؟ او ربما العشرون؟ اذن لأفتح عيني بمشيئة الأب والابن والروح القدس والديمقراطية وشرطة اسرائيل !!
nabiloudeh@gmail.com
via منتديات مجلة أنهار الأدبية http://www.anhaar.com/vb/showthread.php?t=34963&goto=newpost
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق