السبت، 26 أكتوبر 2013

قانون قديم

قانون قديم - قصة-



عندما يطالعني بيتنا القديم أشعر بمذاق الحياة ؛ و تحضرني أيام الطفولة بذكرياتها الأليفة ؛ أشتاق أحيانا لزيارة بعض أقاربي المقيمين فى ذلك البيت ، أتجه إلى الحى العتيق ، أتامل الميدان الفسيح ، أرتفع بعيني إلى شرفات البيت التى تطل على الميدان.

بالرغم من اللون الرمادى الذى آلت إليه جدرانه البيضاء من الأتربة التى تحملها موجات الرياح والعواصف على مدى السنين ، فما زالت تبهرنى تلك الشرفات الطويلة الدائرة مع دوران البيت ، كنا نجرى ونختبىء فيها وندخل من باب لنخرج من آخر ، وتلك النوافذ الخضراء اللامعة .

أيام حرب 56 احضر والدى زهرة زرقاء ، وأذابها أمامنا فى طست من الماء ، وطلى بها النوافذ باللون الأزرق ، وأذكر أنه جهّز لنا أرجوحة فى مدخل البيت الواسع الرطب الشاهق الارتفاع ، يومها أتى بحبل سميك ، وربطه فى جانبى الباب الحديدى ، ووضع علي الحبل وسادة صغيرة أحضرها أخى من شقتنا ، كنا نتسابق فى اللعب على الأرجوحة التى أعجبتنا تماما ، فى نفس الوقت الذى تصل فيه إلى آذاننا أصوات طلقات و انفجارات من الخارج بين حين وآخر ..

مازال البيت يحمل عبق الزمن الجميل !فى هذا اليوم ؛ على العكس؛ أثناء صعودي الدرج ؛ اعترتني كآبة و شعرت بغصة فى حلقى ؛ ؛ وضربت كفا على كف ، ضحكت من تفانين القدر ، وحكايات الدنيا التى لا تنتهى عجائبها !

***

كان ذلك عندما رأيت هذا المقيم بشقتنا القديمة؛ كان واقفا وقد أحضر الحداد الذى كان يحمى عينيه بنظارته الواقية التى يمسكها بيد اليسرى ؛ بينما يتطاير الشرر وينبعث ضوء مبهر من ذلك " الصاروخ" الذى يقبض عليه بيده اليمنى ؛ لصهر وتقطيع وتركيب الباب الحديدى الضخم ليكون بابا ثانيا إضافة إلى الباب الخشبى القديم لتلك الشقة التى لعنتها فى الوقت الذى ندمت فيه عليها ؛ بمجرد حيازته لها وإقامته فيها منذ زمن .

***

نعم ! لقد صارت شقة لعينة ؛ للأسف بعد أن كانت شقة الذكريات ، كانت تسكنها فى البداية عائلة جدتى ،التى أقامت البيت ، كان فى الماضى ؛ مجموعة بيوت خشبية بغدادلى قديمة ، بعد ثورة يوليو هدموها وأقاموا تلك العمارة الجميلة التى تطل على الميدان الفسيح ، و التى لم تسلم من حسد الحاسدين ، قضيت فيها طفولتى ، و سكنتها أسرتى أيضا مع عمتى و ابنتها ، وعمى الكبير وعمى الآخر الصغير ، شقة رحيبة بها ست حجرات ، ودورتان للمياه ، كانت أسرة والدى تشغل حجرتين منعزلتين من الشقة ، بينما تسكن جدتى الحجرة الكبيرة المطلة على الميدان ، عرفت فيما بعد أن عمى الكبير عاد لعيش فى منزل العائلة بعد فشل زواجه من ابنة عمه ؛ كان يقيم مع عمى الصغير فى الحجرة البحرية الأخرى ، أما عمتى وابنتها الشابة ، فكانتا تقطنان الحجرة البحرية المترعة بالضوء و التي تطل على الميدان ؛ ابنة عمى كانت معلمة ، وكانت تقتنى كتبا كثيرة ومجلات ؛ كنت صغيرا أيامها ، وكنت أحب أن أتفرج على ما يقع تحت يدى منها .

***

فى ذلك الزمن كانت الأخبار تتحدث عن بناء السد وعن الانفصال بين مصر وسوريا ؛ وكنا نسمع عن شكرى القوتلى ، كان أبى يقول متحسرا : خسارة كبيرة ، كنت منبهرا بالأخبار ، و بحواديت جدتى وأبى و تلك الساعة العتيقة التى تتصدر بهو الشقة ، بينما يتدلى منها بندول نحاسى طويل لامع لا يكف عن الحركة ، كأنما تحرص على إبهاري بدقاتها المميزة ، والتى صارت علامة من علامات البيت ؛ يومها قالت لى جدتى إن جدى اشتراها من أحد البحارة الانجليز الذى كان يصاحبهم ويتعرف عليهم فى ميناء بورتوفيق ؛ كانت أياما هنية ، وقالت أيضا أنها باعت منزلا بثلاثمائة جنيها ؛ كان المنزل بشارع القاضي الذى كان يلعب فيه إسماعيل ياسين مع والدي وزملاءهما فى طفولتهم ، وقالت لى إن جدى باع قطعة أرض كان قد اشتراها من يوناني صاحب سفينة كان يسافر إلى بلاد الهند والسند وسيلان ليجلب العطور والبخور والشاى واللبان والياقوت من هناك ، أذكر أنها قالت إن عمى الكبير أيضا رهن ذهب زوجته عند أحد التجار اليهود ، واشتروا بالمبلغ كله تلك البيوت القديمة المتلاصقة التي تطل على الميدان ؛ والتى هدموها و أقاموا العمارة بدلا منها، عرفت أن زوجة عمى حزنت على الذهب ، لأن لم يستطع عمى أن يسترده ، بعد أن أنفق ثمنه فى البناء ، وسارت خلافات بينهما حتى انتهت إلى الطلاق .

***

قال لى أبى : أيام حرب هتلر كنا نرفض استلام الجنيه الذهبى من صراف الشركة آخر الشهر ؛ فلما سألته عن السبب قال : الجنيه الورق كان أغلى منه فى السوق ؛ أيامها كان الجنيه الذهب يباع بسبعة وتسعين قرشا ، ونصف القرش للأمانة ، قلت له ضاحكا نصف قرش ! قال نعم ! نصف القرش هذا الذى لا تعرفه ؛ كان يساوى عدة جنيهات من جنيهات هذه الأيام ! تعلمت الجلوس جوار الراديو والإنصات إلى الأخبار والقرآن الكريم من أبى ، كان يحرص على أداء تفس الطقوس يوميا ، يصلى الفجر ويغير ملابسه ، ويجلس تحت النافذة والراديو القديم ليشرب كوب الشاى بالحليب وهو يسمع القرآن ، ثم يدير المؤشر ليسمع أخبار لندن ، ثم يهرول إلى عمله بالشركة قبل بزوغ الشمس وقبل أن نذهب نحن إلى مدارسنا ، ما أن تزوجت ابنة عمتى المعلمة حتى قامت حرب يونيو ، وهاجرنا من بلادنا .

***

هاجرت الجدة والعم إلى الصعيد حيث لاقت الجدة وجه ربها بالمهجر ودفنت على الجانب الآخر من النهر ، عبرت الجنازة النيل بالباخرة فى موكب بحرى جليل ، بعد وفاة جدتى تزوج العم للمرة الثانية ؛ واستقر فى مهجره ،

ورزق بالأولاد ، كان زواجا سعيدا عليه ؛ بالرغم من أنه كان قد جاوز الستين ، لم تكن الزوجة من الأثرياء ، لكنها كانت سيدة بيت أصيلة وولود



اتخذت العمة وابنتها مع زوجها سكنا فى مصر العتيقة ، للأسف لم يعش الزوج سوى عام و بعض عام حتى لقى وجه ربه ، وعاشت العمة مع ابنتها فى ذلك الوقت ظهر أحد الأقرباء من الدرجة الثالثة أو الخامسة ! ليعرض خدماته على السيدتين ، صار يتردد عليهما ويقوم بخدمتهما فوجىء الجيران يوما بأنه تزوج من الأرملة الحسناء ، كانوا يقولون ساخطين : تزوج الخادم من سيدته ! لم يدم زواجه منها شهورا حتى مرضت أمها مرضا شديدا ونحل بدنها ، صاروا يترددون بها على الأطباء والمشافى، حتى نحلت نحولا مخيفا ؛ كانت دائما تطلب من طلبا واحدا وتلح عليه وتكرره ؛ أن يهتم بأبنتها وألا يتركها أبدا ! حتى توفيت ودفنت بالبساتين .

***

مع أول إشارة من السادات لفتح مدن القناة وإعادة الحياة بها ، عادت من مهجرها بصحبة زوجها ؛ قلبها مترع بالهموم ، مثقلة روحها بالأحزان ، لتحتل شقة العائلة الرحيبة ، فى المدينة التى تكاد تكون خالية سوى من أطلال المبانى المهدمة بفعل الحرب ، وعواء الكلاب وحفيف الأشجار وأصوات الرياح ومواء القطط ونعيق الغربان والبوم ..

***

عمت الخيبة والكآبة أفراد العائلة ، وخيم الحزن والتقوقع عليهم جميعا ، ومضت الأيام تترى ، حرص الزوج على وضع اللمسات العاطفية التى تقربه منها ، قام بتعليق صورة كبيرة للمرحومة فى بهو الشقة جوار الساعة العتيقة ، وصورة أخرى فى الصالون لها إطار مذهب ، وصور أخرى متناثرة على المكتب وفى أركان الصالون وحجرة النوم ، كما ظل محتفظا بحاجياتها كما هى ،حرصا على إرضاء زوجته ، يحضر لها كل ما تطلبه بانتظام ، الطعام والجرائد والمجلات التى تحبها ، وأنواع الفاكهة والحلوى ، كان يحاول إرضاءها ويكسب ثقتها ، كانت ترسله باللحم والأرز أول شهر عربى إلى مسجد سيدى الغريب ، كما تعودت أن تزور الأولياء ، مرت أعوام ثم مرضت الزوجة ، وطاف بها على الأطباء ، ثم حتى جاءت النهاية المحتومة وتوفت إلى رحمة ربها .

***

عاش وحيدا داخل الشقة الرحيبة ، ما أن تسلم الشقة حتى سال لعابه للتغيير ، وأراد أن يستوثق من وجوده بها واحتلاله لها ، كانت أجمل وأوسع شقة فى البيت الذى لا يملك فيه شيئا ، و قد حالت العشرة والتقاليد وقانون الإيجارات القديم دون أن يطلب منه أحد مغادرة الشقة ، أو حتى استبدالها بشقة أخرى أصغر ، لعلم الجميع أنه لن يوافق ، ولن يستطيع أحد إخراجه ، لأن القانون معه ، شاهدته أنا فى ذلك اليوم ؛ أثناء صعودى الدرج لزيارة عمى الصغير الباقى من رائحة جيل والدى وأعمامي وعماتي ، كان هذا العم يقطن الدور العلوى بشقة غربية ضيقة ، كان الرجل- الزوج الارمل واقفا مع الحداد أمام باب "شقته"، كنت أنا فى ذلك الوقت قد تزوجت، وسكنت أيضا بشقة فى عمارة بإحدى المدن الجديدة التى تم بناؤها بعد انقضاء سنوات التهجير .

قال لى بلهجة الواثق الحزين :

أردتُ تجميل المنزل ، انتم – ملاك العقار- للأسف لا تفعلون شيئا ؛ ورأيت أنه لابد أن أساهم معكم ، وباب الشقة الخشبي صار قديما كما ترى !

***





via منتديات مجلة أنهار الأدبية http://www.anhaar.com/vb/showthread.php?t=35014&goto=newpost

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق